مادونا عسكر/ لبنان
يعزف الخريف رحيله على أجنحة الطّيور وعلى وقع تساقط وريقات الأشجار، ويعزف الكاتب " حامد حج محمد" روائع خريفه الخاصّة على وقع رحيل شخصيّات أحبّها وعاش معها، سكنها وسكنته، سعد معها وحزن لغيابها.
شخصيّات تشبه طيور الخريف برحيلها مع أولى لفحات البرد إلّا أنّ الطّيور تعود مع أولى ابتسامات الرّبيع. أمّا شخصيّات الكاتب فاختارت أن ترتحل إلى الأبد ولكنّها مستقرّة في داخله وحاضرة في نفسه. يتذكّرها بتفاصيلها ويذكرها ويتعايش معها كلّما هبت نسيمات خريفه لتحمله من مكان إلى آخر ومن حقيقة إلى أخرى.
تعتبر شخصيات الرّواية عناصر أساسيّة وثابتة في ذاكرة السارد، فكلّما تعرّض لموقف أو انتقل إلى مرحلة في حياته، استدعى أبطال روايته الّذين يشتركون جميعاً في الرّحيل، ولكنّهم يختلفون بحضورهم وتأثيرهم. وإذ يستخدم الكاتب في سرد روايته ضمير المتكلّم، فهو يريد بذلك أن يكون القارئ ضمن الأحداث وليس على مقربة منها. فيشعر القارئ أنّه يرافق الكاتب في رحلته منذ بداية الرّواية وحتّى نهايتها، فيحيا معه لحظات الحزن والفرح والدّهشة وحتّى لحظات التأمّل.
يفتتح الكاتب روايته بقصّة حبّ مشابهة لأمطار الخريف، تظهر وتختفي دون سابق إنذار، إلّا أنّها تبهر الحواس بعطر تمازج قطرات الماء بتراب الأرض، وتبعث في النّفس حنيناً يتكرّر مع بداية كلّ خريف. كذلك بطلة الحبّ الأولى، أثارت في نفس الراوي مشاعر لطيفة وخاصّة لكنّها لم تشكّل رحلة حبّ طويلة، بمعنى أصحّ لم تبدأ قصّة الحبّ حتّى تنتهي، إنّما هي محطة أولى وأساسيّة بدأت بتكوين بنية البطل/ السارد النّفسيّة وأولى الخطوات في رحلة الحزن والحنين وحتّى معرفة الحياة. ويتوالى الشّعور الخريفيّ بالحبّ، إذ إنّ الأحداث أو الظّروف لم تكن لتسمح لاختبار الحبّ أن يكتمل.
من خلال سرد الأحداث المرتبطة بالشّخصيّات وبالسارد البطل، يلفت انتباهنا تدرّج مشاعر الحزن المترافق ونضجه. فالشّخصيات الأخرى والمصنّفة مهمّة تشارك في زرع مفاهيم عدّة في عقل هذا السارد وذاته، كما أنّها تسهم في إنقاذه من حزنه حيناً وإعادته إليه أحياناً. ليس لأنّها تسبّبت في ذلك وإنّما الحنين والشّوق إليها وإلى حضورها، يربك نفسه ويبعث فيها الحسرة والأسى.
يقيّد الحزن النّمطيّ والطّاغي في الرّواية القارئ أحياناً إذ إنّه يعيق عامل التّشويق، إلّا أنّ الكاتب يستدرك الأمر ويعطّل النّمطيّة في "صراع مع بواكير المطر"، يستعيد من خلالها ماضياً أليماً بكل أحلامه وذكرياته وصراعاته، يتأمّله ويحاكي أحداثه وشخصّيّاته، حتّى يخرج بمفهوم خريفيّ مخالف لذلك الّذي بدأ به. في البدء كان الخريف يوحي له بالرّحيل، إلّا أن التّجربة تمنحه القدرة على تحويل الخسارة إلى ربح، والموت إلى ميلاد جديد.
مشهد خريفيّ بامتياز بل لوحة خريفيّة تختلط فيها المشاعر وتتناقض، وتتلبّد في سمائها الأحداث ثم تنهمر عبراتها وما تلبث أن تنكشف أشعة شمسها لتنقذ البطل من مرارته وأساه وتشرّع نفسه على رجاء الحرّيّة والفرح، والميلاد الجديد، وتؤكّد أنّه " ليس المهمُّ طول الزمن الذي يجعلك كبيراً، سنةٌ واحدةٌ فقط قد تجعلك تبحر في التجارب ولن تبقيك كما أنت."
__________________________________________________
صدرت الرواية عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله للكاتب الأستاذ (حامد حج محمد)، الرواية تقع في 97 صفحة من الحجم المتوسط، وقد قام بتصميم الرواية (الكاتب شريف سمحان)، ورسم لوحة الغلاف الأستاذ (معاذ حج محمد).